فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)}.
تفريع على ما تقدم كله من قوله: {إن عذاب ربك لواقع} [الطور: 7] لأنه تضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المكذبين والافتراء عليه، وعقب بهذا لأن من الناس مؤمنين به متيقنين أن الله أرسله مع ما أعد لكلا الفريقين فكان ما تضمنه ذلك يقتضي أن في استمرار التذكير حكمة أرادها الله، وهي ارعواء بعض المكذبين عن تكذيبهم وازدياد المصدقين توغلًا في إيمانهم، ففرع على ذلك أن أمر الله رسول صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير.
فالأمر مستعمل في طلب الدوام مثل {يا أيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه ورسوله} [النساء: 136].
ولما كان أثر التذكير أَهمَّ بالنسبة إلى فريق المكذبين ليهتدي من شرح قلبه للإِيمان رُوعي ما يَزيد النبي صلى الله عليه وسلم ثباتًا على التذكير من تبرئته مما يواجهونه من قولهم له: هو كاهن أو هو مجنون، فربط الله جَأش رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بأن براءته من ذلك نعمة أنعم بها عليه ربه تعالى ففرع هذا الخبر على الأمر بالتذكير بقوله: {فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون}.
والباء في {بنعمت ربك} للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير {أنت}.
ونفي هاذين الوصفين عنه في خطاب أمثاله ممن يستحق الوصف بصفات الكمال يدل على أن المراد من النفي غرض آخر وهو هنا إبطال نسبة من نسبه إلى ذلك كما في قوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} [التكوير: 22]، ولذلك حسن تعقيبه بقوله: {أم يقولون شاعر} [الطور: 30] مصرحًا فيه ببعض أقوالهم، فعلم أن المنفي عنه فيما قبله مقالة من مقالهم.
وقد اشتملت هاته الكلمة الطيبة على خصائص تناسب تعظيم من وجهت إليه وهي أنها صيغت في نظم الجملة الاسمية فقيل فيها (ما أنت بكاهن) دون: فلست بكاهن، لتدل على ثبات مضمون هذا الخبر.
وقدم فيها المسند إليه مع أن مقتضى الظاهر أن يقدم المسند وهو {كاهن} أو {مجنون} لأن المقام يقتضي الاهتمام بالمسند ولكن الاهتمام بالضمير المسند إليه كان أرجح هنا لما فيه من استحضار معاده المشعر بأنه شيء عظيم وأفاد مع ذلك أن المقصود أنه متصف بالخبر لا نفس الإِخبار عنه بالخبر كقولنا: الرسول يأكل الطعام ويتزوج النساء.
وأفاد أيضًا قصرًا إضافيًا بقرينة المقام لقلب ما يقولونه أو يعتقدونه من قولهم: هو كاهن أو مجنون، على طريقة قوله تعالى: {وما أنت علينا بعزيز} [هود: 91].
وقرن الخبر المنفي بالباء الزائدة لتحقيق النفي فحصل في الكلام تقويتان، وجيء بالحال قبل الخبر، أو بالجملة المعترضة بين المبتدأ والخبر، لتعجيل المسرة وإظهار أن الله أنعم عليه بالبراءة من هذين الوصفين.
وعدل عن استحضار الجلالة بالاسم العلم إلى تعريفه بالإِضافة وبوصفه الرب لإِفادة لطفه تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم لأنه ربه فهو يربُّه ويدبر نفعه، ولتفيد الإضافة تشريف المضاف إليه.
وقوله تعالى: {فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون} ردّ على مقالة شَيبة بن ربيعة قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كاهن، وعلى عقبة بن أبي معيط إذ قال: هو مجنون، ويدل لكونه ردًا على مقالة سبقت أنه أتبعه بقوله: {أم يقولون شاعر} [الطور: 30] ما سيكون وما خفي مما هو كائن.
والكاهن: الذي ينتحل معرفة ما سيحدث من الأمور وما خفي مما هو كائن ويخبر به بكلام ذي أسْجاع قصيرة.
وكان أصل الكلمة موضوعة لهذا المعنى غير مشتقة، ونظيرها في العبرية (الكوهين) وهو حافظ الشريعة والمفتي بها، وهو من بني (لاوي)، وتقدم ذكر الكهانة عند قوله تعالى: {وما تنزلت به الشياطين} في سورة الشعراء (210).
وقد اكتُفي في إبطال كونه كاهنًا أو مجنونًا بمجرد النفي دون استدلال عليه، لأن مجرد التأمل في حال النبي صلى الله عليه وسلم كاففٍ في تحقق انتفاء ذينك الوصفين عنه فلا يحتاج في إبطال اتصافه بهما إلى أكثر من الإِخبار بنفيهما لأن دليله المشاهدة.
{أَمْ يَقولونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)}.
إن كانت {أم} مجردة عن عمل العطف فالجملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا، وإلا فهي عطف على جملة {فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون} [الطور: 29].
وعن الخليل كل ما في سورة الطور من (أم) فاستفهام وليس بعطف، يعني أن المعنى على الاستفهام لا على عطف المفردات.
وهذا ضابط ظاهر.
ومراده: أن الاستفهام مقدر بعد (أم) وهي منقطعة وهي للإِضراب عن مقالتهم المردودة بقوله: {فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون} [الطور: 29] للانتقال إلى مقالة أخرى وهي قولهم: {هو شاعر نتربص به ريب المنون}.
وعدل عن الإِتيان بحرف (بل) مع أنه أشهر في الإِضراب الانتقالي، لقصد تضمن {أم} للاستفهام.
والمعنى: بل أيقولون شاعر الخ.
والاستفهام المقرّر إنكاري.
ومناسبة هذا الانتقال أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير يُشير إلى مقالاتهم التي يردون بها دعوته فلما أشير إلى بعضها بقوله تعالى: {فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون} [الطور: 29] انتقل إلى إبطال صفة أخرى يثلثون بها الصفتين المذكورتين قبلها وهي صفة شاعر.
روى الطبري عن قتادة قال قائلون من الناس: تربصوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعرَ بني فلان وشاعر بني فلان، ولم يعينوا اسم الشاعر ولا أنه كان يهجو كفار قريش.
وعن الضحاك ومجاهد: أن قريشًا اجتمعوا في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمد صلى الله عليه وسلم فقال بنو عبد الدار: هو شاعر تربصوا به ريب المنون، فسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت هذه الآية فحكت مقالتهم كما قالوها، أي فليس في الكلام خصوص ارتباط بين دعوى أنه شاعر، وبين تربص الموت به لأن ريب المنون يصيب الشاعر والكاهن والمجنون.
وجاء {يقولون} مضارعًا للدّلالة على تجدد ذلك القول منهم.
والتربص مبالغة في: الرَّبْص، وهو الانتظار.
والريب هنا: الحدثان، وفسر بصرف الدهر، وعن ابن عباس: ريب في القرآن شك إلا مكانًا واحدًا في الطور {ريب المنون}.
والباء في {به} يجوز أن تكون للسبب، أي بسببه، أي نتربص لأجله فتكون الباء متعلقة بـ {نتربص} ويجوز أن تكون للملابسة وتتعلق بـ {ريب المنون} حالًا منه مقدمة على صاحبها، أي حلول ريب المنون به.
والمنون: من أسماء الموت ومن أسماء الدهر، ويذكّر.
وقد فُسر بكلا المعنيين، فإذا فسر بالموت فإضافة {ريب} إليه بيانية، أي الحدثان الذي هو الموت وإذا فسر المنون بالدهر فالإِضافة على أصلها، أي أحداث الدهر من مثل موت أو خروج من البلد أو رجوع عن دعوته، فريب المنون جنس وقد ذكروا في مقالتهم قولهم: فسيهلك، فاحتملت أن يكونوا أرادوه بيانَ ريب الموت أو إن أرادوه مثالًا لريب الدهر، وكلا الاحتمالين جار في الآية لأنها حكت مقالتهم.
وقد ورد {ريب المنون} في كلام العرب بالمعنيين؛ فمن وروده في معنى الموت قول أبي ذؤيب:
أمن المنون وريبها تتوجع ** والدهر ليس بمعتب من يجزع

ومن وروده بمعنى حدثنان الدهر قول الأعشى:
أإن رأت رجلًا أعشى أضرَّ بِهِ ** ريبُ المنوننِ ودهرٌ مُتبِل خَبِلُ

أراد أضرّ بذاته حدَثان الدهر، ولم يرد إصابة الموت كما أراد أبو ذؤيب.
ولما كان انتفاء كونه شاعرًا أمرًا واضحًا يكفي فيه مجردُ التأمل لم يتصد القرآن للاستدلال على إبطاله وإنما اشتملت مقالتهم على أنهم يتربصون أن يحلّ به ما حلّ بالشعراء الذين هم من جملة الناس.
فأمر الله تعالى نبيئه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم عن مقالتهم هذه بأن يقول: {تربصوا فإنى معكم من المتربصين} [الطور: 31]، وهو جواب منصف لأن تربص حلول حوادث الدهر بأحد الجانيين أو حلول المنية مشترك الإِلزام لا يدري أحدنا ماذا يحل بالآخر.
{قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)}.
وردت جملة {قل تربصوا} مفصولة بدون عطف لأنها وقعت في مقام المحاورة لسبقها بجملة {يقولون شاعر} [الطور: 30] الخ، فإن أمر أحد بأن يقول بمنزلة قوله فأُمر بقوله، ومثله قوله تعالى: {فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة} [الإسراء: 51].
والأمر في {تربصوا} مستعمل في التسوية، أي سواء عندي تربصكم بي وعدمه.
وفرع عليه {فإني معكم من المتربصين} أي فإني متربص بكم مثل ما تتربصون بي إذ لا ندري أينا يصيبه ريب المنون قبل.
وتأكيد الخبر بـ (إن) في قوله: {فإني معكم من المتربصين} لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر أنه يتربص بهم كما يتربصون به لأنهم لغرورهم اقتصروا على أنهم يتربصون به ليروا هلاكه، فهذا من تنزيل غير المنكر منزلة المنكر.
والمعية في قوله: {معكم} ظاهرها أنها للمشاركة في وصف التربص.
ولمّا كان قوله: {من المتربصين} مقدرًا معه بكم لمقابلة قولهم: {نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] كان في الكلام توجيه بأنه يبقى معهم يتربص هلاكهم حين تبدو بوادره، إشارة إلى أن وقعة بدر إذْ أصابهم من الحدثان القتل والأسر، فتكون الآية مشيرة إلى صريح قوله تعالى في سورة براءة (52) {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللَّه بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون} وإنما قال هنا: {من المتربصين} ليشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يتربص بهم ريب المنون في جملة المتربصين من المؤمنين، وذلك ما في آية سورة براءة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وقد صيغ نظم الكلام في هذه الآية على ما يناسب الانتقال من غرض إلى غرض وذلك بما نُهِّي به من شبه التذييل بقوله: {قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين} إذ تمت به الفاصلة.
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم بهذآ}.
إضراب انتقال دعا إليه ما في الاستفهام الإِنكاري المقدّر بعد {أم} من معنى التعجيب من حالهم كيف يقولون مثل ذلك القول السابق ويستقر ذلك في إدراكهم وهم يدّعون أنهم أهل عقول لا تلتبس عليهم أحوال الناس فهم لا يجهلون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس بحال الكهان ولا المجانين ولا الشعراء وقد أبى عليهم الوليد بن المغيرة أن يقول مثل ذلك في قصة معروفة.
قال الزمخشري: وكانت قريش يُدعون أهل الأحلام والنُهى والمعنى: أم تأمرهم أحلامهم المزعومة بهذا القول.
والإِشارة في قوله: {بهذا} إلى المذكور من القول المعرِّض به في قوله: {فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون} [الطور: 29]، والمُصرح به في قوله: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30]، وهذا كما يقول من يلوم عاقلًا على فعل فعله ليس من شأنه أن يجهل ما فيه من فساد: أعَاقِلٌ أنت؟ أو هذا لا يفعله عاقل بنفسه، ومنه ما حكى الله عن قوم شعيب من قولهم له: {إنك لأنت الحليم الرشيد} [هود: 87].
والحلم: العقل، قال الراغب: المانعُ من هيجان الغضب.
وفي (القاموس) هو الأناة.
وفي (معارج النور): والحلم ملكة غريزية تُورث لصاحبها المعاملة بلطف ولين لمن أساء أو أزعج اعتدال الطبيعة.
ومعنى إنكار أن تأمرهم أحلامهم بهذا أن الأحلام الراجحة لا تأمر بمثله، وفيه تعريض بأنهم أضاعوا أحلامهم حين قالوا ذلك لأن الأحلام لا تأمر بمثله فهم كمن لا أحلام لهم وهذا تأويل ما روي أن الكافر لا عقل له.
قالوا وإنما للكافر الذهن والذهن يقبل العِلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لِحدود الأمر والنهي.
والأمر في {تأمرهم} مستعار للباعث، أي تبعثهم أحلامهم على هذا القول.
{أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.
إضرابُ انتقالي أيضًا متصل بالذي قبله انتقل به إلى استفهام عن اتصافهم بالطغيان.
والاستفهام المقدر مستعمل: إما في التشكيك ليكون التشكيك باعثًا على التأمل في حالهم فيؤمن بأنهم طاغون، وإمّا مستعمل في التقرير لكل سامع إذ يجدهم طاغين.
وإقحام كلمة {قوم} يمهّد لكون الطغيان من مقومات حقيقة القومية فيهم، كما قدمناه في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164)، أي تأصل فيهم الطغيان وخالط نفوسهم فدفعهم إلى أمثال تلك الأقوال.
{أَمْ يَقولونَ تَقولهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}.
انتقال متصل بقوله: {أم يقولون شاعر} [الطور: 30] الخ.
وهذا حكاية لإِنكارهم أن يكون القرآن وحيًا من الله، فزعموا أنه تقوله النبي صلى الله عليه وسلم على الله، فالاستفهام إنكار لقولهم، وهم قد أكثروا من الطعن وتمالؤوا عليه ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة {يقولون} المفيدة للتجدد.
والتقول: نسبة كلام إلى أحد لم يقله، ويتعدى إلى الكلام بنفسه ويتعدى إلى من يُنسب إليه بحرف (على)، قال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين} [الحاقة: 44، 45] الآية.
وضمير النصب في {تقوله} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام.
وابتدىء الرد عليهم بقوله: {بل لا يؤمنون} لتعجيل تكذيبهم قبل الإِدلاء بالحجة عليهم وليكون ورود الاستدلال مفرّعًا على قوله: {لا يؤمنون} بمنزلة دليل ثان.
ومعنى {لا يؤمنون}: أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقول القرآن بيّنة لديهم ولكن الزاعمين ذلك يأبون الإِيمان فهم يبادرون إلى الطعن دون نظر ويلقون المعاذير سترًا لمكابرتهم.
ولما كانت مقالتهم هذه طعنًا في القرآن وهو المعجزة القائمة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكانت دعواهم أنه تقول على الله من تلقاء نفسه قد تروج على الدهماء تصدى القرآن لبيان إبطالها بأن تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} أي صادقين في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تقوله من تلقاء نفسه، أي فعجزهم عن أن يأتوا بمثله دليل على أنهم كاذبون.